السلام عليكم ورحمة اللة وبركاتة
وبعد
نحن الآن على أعتاب قرية صغيرة .. يغلب على أهلها الجهل والفقر .. فهم أناس بسطاء .. وطيبون .. فهم في الزراعة يشتغلون .. وبعرق جبينهم يقتاتون .. ورغم ذلك فالمحبة هي عنوان تعاملهم .. والصدق نبراس علاقتهم ..
وامتدت هذه العلاقة إلى الأطفال الصغار .. الذين يلهون يمرحون بكل براءة .. فهذا عثمان وقرينه ماجد متلازمان دائماً فلا ترى أحدهما إلا والآخر بجانبه .. لا يفترقان إلا وقت النوم رغم صغر سنهما .. فهما لم يلتحقا بالمدرسة بعد .. إلا أنّ علاقتهما قوية ..
ودارت عجلة الزمان .. ودخلا المدرسة سوياً .. كانا متفوقين في الدراسة .. فعثمان دائمُ الحصول على المرتبة الأولى .. ويليه رفيق دربه ماجد .. أكملا المرحلتين الابتدائية والمتوسطة بنفس المستوى المتميز ..كبر الاثنان .. أصبحا شابين يافعين يشار إليهما بالبنان .. كانت الظروف المعيشية صعبة للغاية .. كانا يعيشان تحت خط الفقر .. إلا أن ذلك لم يؤثر على أخوتهما .. فعلاقة عثمان بماجد تتحدى أشد الظروف قسوة .. فيقتسمان كسرة الخبز بينهما .. وفتات الطعام البالي .. ويتعنّى أحدهما في سبيل إرضاء أخيه .. في سبيل توفير القوت له .. فكم ظمأ أحدهما في سبيل إرواء أخيه .. وكم جاع من أجل إشباعه ..
بالفعل .. كانت علاقة أخوية .. علاقة روحية .. علاقة لا مثيل لـها .. كانا يعيشان بأجساد متفرقة .. لكنها متوافقة فهما روح في جسدين ..
علاقةٌ رغم مرور الزمن إلا أنه لم يكدر من صفائها شيء .. ولم ينغص من نقائها شيء .. فأنّى لعلاقة مثلها أن تصلها يد المخربين .. أو وشاية الماكرين الحاقدين ..
وإن نسينا فلا ننسى ذلك اليوم الذي اعتّل فيه ماجد .. وبقي صريع المرض وطريح الفراش .. واشتد عليه مرضه .. وزادت عليه علته .. فمكث أياماً لم يرَ فيها نبض قلبه .. عثمان .. فزاد ذلك من همه وغمه .. وساءت حالته .. إلى أن قدم عثمان يعوده .. فلا تسل عن شعوره حين لقياه ..كأن خاطره أنشد :
مرض الحـبيب فعدته فمرضت من حذري عليه
فأتى الحـبيب يعودني فبرئت من نظـــري إليـه
وانقضت الأيام والسنون .. ودخل الاثنان مرحلة تحدٍ جديدة .. إذ أنهما على أعتاب التخرج من المرحلة الثانوية .. فهما الآن في السنة النهائية من هذه المرحلة .. فكانا رمزاً للتعاون والإخاء .. وانقضت فترة الاختبارات بكل همومها وأشجانها .. والجميع في ترقب النتيجة النهائية .. وعثمان ينتظر المرتبة الأولى كالمعتاد .. وجاء يوم الحصاد .. فكانت المفاجأة بالنسبة لعثمان .. لقد حصل على المرتبة الثانية .. أما الأولى فكانت من نصيب رفيق دربه ماجد .. لم يتمالك نفسه .. فقد كان سريع الغضب .. شديد الغيرة .. أقسم على حبس نفسه في البيت .. ساءت حالته .. تغير لونه .. ضاقت عليه الأرض بما رحبت .. كرِه ماجد .. ولم يعد يُطيق رؤيته .. ولا سماع أخباره .. بدأت الخواطر تتوارد بذهنه تصول وتجول .. فكّر في قتل ماجد للتخلص من الهم كله .. بالطبع لم تَرُق له الفكرة .. لأنها كانت ساذجة ..
فعلاقتهما أكبر من هذا كله .. ولكن .. زادت هذه الهواجس وكثرت الوساوس .. فتحولت إلى قناعة .. عقد العزم على قتل ماجد .. ولكن قلبه لم يطاوعه .. جاء الشيطان فزين له الفكرة .. قرر التنفيذ .. تجهز بجهازه .. أخذ بندقيته .. وبالطبع لم ينس أخذ سكينته .. ليبدأ بها فصول الجريمة ..
وعلى الفور .. توجه تلقاء بيت ماجد .. طرق الباب .. خرجت أخته الصغيرة ذات السنوات الأربع ..
" من بالباب " .. " أنا .. أنا عثمان .. أريد مقابلة ماجد " .. ودخلت الطفلة المسكينة لتدعو ماجد لمقابلة عثمان .. وهي لا تعلم أنها آخر نظرة تلقيها عليه .. لم يدر بخلدها أنها لن تراه بعد اليوم .. وأنها ستفقد من كان يلاطفها ويلاعبها .. ستفقد من كان يحميها من أذية الصغار .. ستفقد الأخ القدوة .. ستفقد الأخ الصدوق .. ستفقده ..
خرج ماجد لمقابلة عثمان .. فرحب به وطلب منه الدخول .. إلا أنه اعتذر .. وطلب منه أن يخرج معه للصيد خارج القرية .. اعتذر ماجد فظروفه لن تسمح له .. لكن عثمان أصّر عليه ..
فوافق ماجد على طلبه .. لأنه لا يريد أن يغضبه ولا ليعكر صفوه .. فهو لا يردُّ له طلباً .. فأجل كل ارتباطاته من أجله فكل شيء في سبيله يهون ..
ابتعدا عن القرية .. فلما أيقن عثمان .. بخلوّ المكان .. ومناسبة الزمان .. وعلى غفلة من ماجد .. أراد أن يبطش به .. فأخرج سكينته .. رفع يده ليطعنه .. ولكنه ..
لكنّه .. تذكر صحبته ورفقته .. تذكر الأيام الخالية .. تذكر اللحظات الماتعة .. وكذلك تذكر أمه التي كانت توصيه دوما بتقوى الله .. تذكر ذلك كله .. فهمّ أن يلقيها من يده .. وليته فعل ..
لكنه ركب عقله .. وأبحر في دياجير ظلمته .. فأغرز خنجره في ظهره .. صرخ ماجد وهو مثخن بجراحه .. صرخ مذكراً بحق صحبته .. متوسلاً إليه بحق أخوته .. لكن عثمان قد طوى ملف الماضي .. وأغلق عليه في زنزانة النسيان أبداً وقال عثمان وقد أحكم الشيطان على عقله .. سأريك حق الصحبة .. فأخرج بندقيته وأفرغها في صدره .. ولم يكتف بذلك بل أطبق صخرة على رأسه .. تنضخ الدم على ثوبه .. فتقزز منه .. ثم رماه في أحد الأودية ليتخلص منه ..
عاد إلى منزله .. وكأن شيئاً لم يكن .. دخل غرفته متخفياً .. ليتخلص من آثار الدماء التي على ملابسه .. دخلت عليه أخته الصغيرة .. التي لم تتجاوز ربيعها الثالث .. رأت الدماء عليه .. وكأن الله سخرها لتكون الخيط الأول في كشف هذه الجريمة .. صرخت إلى والدها " بابا .. دم .. دم .. " .. أقبل الوالد إليه .. رأى الدماء فسأله .. فتلعثم .. وزعم أنها من آثار الصيد .. لكنه لم يقتنع بذلك .. فضيق عليه .. إلى أن اعترف بالجرم المشهود .. فما كان من والده إلا أن أرسله إلى المحكمة .. ليلقى حكم الله .. جزاء ما قدمت يداه .. وهاهو الآن خلف القضبان .. ينتظر عقوبة الإعدام .. عافانا الله وإياكم من الطغيان .